البرزخ
بقلم
الباحث المهندس عبد الدائم الكحيل
نعيش
مع أحدث الاكتشافات العلمية حول المنطقة التي يلتقي فيها النهر العذب مع البحر
المالح، وكيف يتطابق العلم الحديث مع ما جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرناً،
لنقرأ...
يقول
تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا
عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا
مَحْجُورًا) [الفرقان: 53]. تحدثت هذه الآية عن
نعمة من نعم الله تعالى علينا، وهي أن جعل بين النهر العذب والبحر المالح برزخاً
منيعاً يمنع طغيان أحدهما على الآخر ويحافظ على التوازن المائي على كوكب الأرض،
ولذلك قال: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا). ونلاحظ من هذه الآية أن البحر يمكن أن يكون عذباً فراتاً ويمكن أن يكون
ملحاً أجاجاً. وفي هذه الآية إشارة أيضاً إلى وجود حاجز منيع وقوي سمّاه القرآن
(البرزخ).
إن
الذي يتأمل هذه الآية يدرك أن الله تعالى يتحدث عن معجزة عظيمة وآية كبرى، وهي
امتزاج الماء العذب بالماء المالح عبر حاجز منيع وحِجرٍ محكم. وكأن الله تعالى
يعطينا إشارة إلى أهمية هذه المنطقة، أي منطقة مصبّات الأنهار في البحار، وهذا ما
سنراه الآن علمياً.
ما
هو الحِجْر؟
يقول
الفيروز آبادي في معجم القاموس المحيط: "الحَجْرُ: المَنْعُ، ونشأَ في حِجْره
أي: في حِفظِه"[1].
ونستطيع أن نستنتج أن هنالك حاجزاً منيعاً ومحفوظاً برعاية الله تعالى، أو أن
هنالك منطقة من الماء محاطة بحواجز كأنها حجرة مغلقة، ويقول ابن كثير في تفسيره
لهذه الآية: "وهو الذي مرج البحرين: أي خلق الماءين، الحلو والملح. فالحلو
كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو. وجعل بينهما برزخاً: أي حاجزاً،
وحِجراً محجوراً: أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر[2]". ولكن ماذا عن العلم الحديث وماذا يقول في ذلك؟
أهمية
البرزخ المائي
البرزخ
المائي هو منطقة تقع على مصبات الأنهار عندما يلتقي النهر مع البحر، أي عندما
يلتقي الماء العذب بالماء المالح، وهي منطقة تعتبر مغلقة ومحاطة بحاجز مائي أو من
اليابسة. يسميها العلماء اليوم estuaryوتحظى
هذه المناطق باهتمام كبير من قبل العلماء، لأن امتزاج الماء العذب بالمالح هي
ظاهرة فريدة ورائعة حقاً[3].
إن
الذي يزور منطقة المصب هذه أو التي يسميها القرآن بمنطقة الحاجز أو البرزخ يلاحظ
الاختلافات الكبيرة في هذه البيئة والفروقات في كثافة المياه ودرجة ملوحتها ودرجة
حرارتها من لحظة لأخرى ومن فصل لآخر[4]، أي أن هنالك عملية مزج وخلط وتداخل مستمر للماء العذب والماء المالح.
وربما
نعجب إذا علمنا أن كلمة (مَرَجَ) الواردة في قوله تعالى: (وَهُوَ
الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) تعبر تعبيراً دقيقاً عن
العمليات التي تتم في هذه المنطقة والتي رصدها العلماء حديثاً.
ففي
القاموس المحيط نجد معنى كلمة (مَرَجَ): خَلَطَ، وأمر مَرِيج: مختلط، والمَرجُ:
الاختلاط والاضطراب[5].
وفي تفسير ابن كثير: "المريج: المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله، كقوله
تعالى (إنكم لفي قول مختلف) [الذاريات: 8]"[6].
والعجيب
جداً أن ما يحدث فعلاً في منطقة المصب يشمل جميع هذه المعاني، أي أن الكلمة
القرآنية تعبّر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة ما يحدث، كيف لا تعبر عن الحقيقة وهي
منزّلة من خالق هذا المصب سبحانه وتعالى؟
أقسام
منطقة المصب
يقسّم
العلماء اليوم منطقة المصب إلى ثلاثة أقسام:
1-
منطقة الماء العذب من جهة النهر.
2-
منطقة الماء المالح من جهة البحر.
3-
منطقة الحاجز بين النهر والبحر، وهي ما يسميه القرآن بالبرزخ.
ويمكن
أن يمتد تأثير المياه العذبة على المياه المالحة لمئات الكيلو مترات في البحر.
وبالرغم من وجود الكثير من مصبات الأنهار في العالم، إلا أنه لا يوجد برزخ يشبه
الآخر! فكل برزخ يتميز بخصائص محددة عن غيره تتبع الاختلاف في درجة الملوحة،
والاختلاف في درجة الحرارة، وهذا يتبع درجة ملوحة ماء البحر، وطول النهر، وغير ذلك
من العوامل مثل درجة الحموضة PH وكمية العوالق في ماء النهر وسرعة تدفق ماء النهر...[7].
المنطقة
المحجورة
في
منطقة المصب، حيث يلتقي النهر مع البحر، هذه المنطقة تتميز بوجود اختلاف كبير في
درجة الملوحة ودرجات الحرارة، وعلى الرغم من ذلك هنالك كائنات ونباتات وحيوانات
تأقلمت وتعيش في هذه المنطقة.
إن
الكائنات التي تعيش في الماء المالح لا تستطيع الحياة في الماء العذب، لأن خلايا
جسدها تحوي تركيزاً محدداً من الملح وبمجرد إلقائها في الماء العذب سوف تموت بسبب
دخول الماء العذب إلى جسمها بكميات كبيرة.
الكائنات
التي تعيش في الماء العذب أيضاً لا يمكنها أن تعيش في الماء المالح للسبب ذاته،
أما الكائنات التي تعيش في المنطقة الفاصلة بين النهر والبحر أي منطقة البرزخ فهي
أيضاً لا يمكنها أن تعيش خارج هذه المنطقة لأنها تأقلمت معها، وبالتالي يقوم اليوم
العلماء بدراسة منطقة المصب كمنطقة مستقلة لها طبيعتها وقوانينها وكائناتها.
وهذا
يدل على أن منطقة المصب هي منطقة محجورة ولها استقلاليتها ومحفوظة أيضاً برعاية
الله تعالى، وهي منطقة مغلقة تشبه الحجرة المغلقة، ومن هنا يمكن أن نفهم بعمق أكبر
معنى قوله تعالى(وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا).
اختلاط
واضطراب واختلاف
من
عظمة البيان القرآني أنه يعطينا التعبير العلمي الدقيق والمختصر في أقل عدد من
الكلمات، فكلمة (مَرَجَ) تتضمن العديد من المعاني أهمها:
1-
الخلط:يقول العلماء إن هنالك خلطاً ومزجاً مستمراً للماء المالح بالماء العذب،
وهذا الخلط لا يتوقف أبداً، إذ أن سطح الماء يرتفع وينخفض باستمرار وبنظام محكم،
ويبقى كل ماء منفصل عن الآخر بمنطقة محددة بينهما هي ما سمّاه القرآن بالبرزخ، هذا
البرزخ قد يمتد لعدة كيلو مترات. ومن معاني كلمة (مرج): خلط، كما رأينا.
- الاضطراب: إذا نظرنا إلى منطقة المصب نلاحظ أن
الجريان مستقر، وأنها منطقة هادئة غالباً. ولكن التجارب الجديدة في منطقة البرزخ
المائي بين النهر العذب والبحر المالح أشارت إلى أن الجريان هو جريان مضطرب، وهذه
معلومات دقيقة لم يصل إليها العلماء إلا حديثاً جداً[9]. وهذا هو أحد معاني كلمة
(مرج).
- الاختلاف:هنالك اختلاف في درجات الحرارة والملوحة
تبعاً لليل والنهار، المنحني الأسود المتعرج يمثل المدّ والجزر، أي يمثل ارتفاع
مستوى سطح الماء وانخفاضه بين الليل والنهار، يمثل الخط الأحمر اختلاف درجة
الحرارة بين الليل والنهار، أما الخط الأزرق فيمثل اختلاف درجة الملوحة بين الليل
والنهار. طبعاً عندما يرتفع مستوى سطح البحر فإن درجة ملوحة الماء تزداد في منطقة
البرزخ، بينما عندما يكون البحر في حالة الجزر، فإن كمية الماء العذب المتدفقة من
النهر تزداد، وبالتالي تنخفض ملوحة الماء في منطقة المصب.
وتجدر
الإشارة إلى أن الاختلاف في درجة الملوحة يتبع الليل والنهار والشهر والفصل ودرجة
الحرارة وحركة المد والجزر. وربما نتذكر قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]. ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى
الاختلافات والتغيرات الكثيرة التي نشاهدها خلال الليل والنهار، ومنها الاختلافات
في الحرارة والملوحة في منطقة البرزخ. وتتضمن كلمة (مرج) هذا المعنى.