دعاء العبد الخطاء
إلهي ..
إنك ترى نفسي و لا يراها سواك .
تراها كالبيت الكبير الذي تصدعت منه الجدران و تهاوت السقوف و انكفأت الموائد .
بيتاً مهجوراً يتعاوى فيه الذئاب و يلهو فيه القردة و تغرد العصافير .
ساعةً تتلألأ فيه الأنوار و تموج فيه أشعة القمر .
و ساعةً أخرى مظلماً مطموساً محطم المصابيح تسرح فيه العناكب .
مرةً تحنو عليه يد الربيع فتتفتح الزهور على نوافذه و تصدح البلابل و تغزل الديدان الحرير و تفرز النحلات الطنانة العسل.
و مرةً أخرى يأتي عليه الزلزال فلا يكاد يخلف جداراً قائماً لولا ذلك الحبل الممدود الذي ينزل بالنجدة من سماوات رحمتك .
حبل لا إله إلا أنت سبحانك .
أنت
الفاعل سبحانك و أنت مجري الأقدار و الأحكام .. و أنت الذي امتحنت و قويت
و أضعفت و سترت و كشفت .. و ما أنا إلا السلب و العدم .. و كل توفيق لي
كان منك و كل هداية لي كانت بفضلك و كل نور كان من نورك .. ما أنا إلا
العين و المحل و كل ما جرى علي من استحقاقي و كل ما أظهرت فيّ كان بعدلك و
رحمتك .. ما كان لي من الأمر شيء .
و هل لنا من الأمر شيء !؟
مولاي
.. يقولون إن أكبر الخطايا هي خطايا العارفين .. و لكني أسألك يارب أين
العارف أو الجاهل الذي استطاع أن يسلم من الفتنة دون رحمة منك .. و أنت
الذي سويت نفوسنا و خلقتها و وصفتها بأنها
( لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) .
و
أين من له الحول و القوة بدونك .. و هذا جبريل يقول لنبيك لا حول من معصية
إلا بعصمة الله و لا قوة على طاعة الله إلا بتمكين الله .
و هل استعصم الذين استعصموا إلا بعصمتك و هل تاب الذين تابوا إلا بتوبتك .. و هل استغفروا إلا بمغفرتك .
إلهي .. لقد تنفست أول ما تنفست بك و نطقت بك و سمعت بك و أبصرت بك و مشيت بك و اهتديت بك .. و ضللت عندما خرجت عن أمرك .
سألتك
يارب بعبوديتي أن ترفع عني غضبك .. فها أنا ذا و قد خلعت عن نفسي كل
الدعاوي و تبرأت من كل حوْل و طوْل و لبست الذل في رحاب قدرتك .
إنك لن تضيعني و أنا عبدك .
لن تضيع عبداً ذل لربوبيتك و خشع لجلالك .
و كيف يضيع عبد عند مولىً رحيم فكيف إذا كان هذا المولى هو أرحم الراحمين .
ربّ
اجذبني إليك بحبلك الممدود لأخرج من ظلمتي إلى نورك و من عدميتي إلى وجودك
و من هواني إلى عزتك .. فأنت العزيز حقاً الذي لن تضرك ذنوبي و لن تنفعك
حسناتي .
إن كل ذنوبنا يارب لن تنقص من ملكك .
و كل حسناتنا لن تزيد من سلطانك .
فأنت أنت المتعال على كل ما خلقت المستغني عن كل ما صنعت .
و أنت القائل :
هؤلاء في الجنة و لا أبالي و هؤلاء في النار و لا أبالي .
و أنت القائل على لسان نبيك :
( ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم )
فها أنا أدعوك فلا أكف عن الدعاء .. فأنا المحتاج.. أنا المشكلة .. و أنا المسألة .
أنا العدم و أنت الوجود فلا تضيعني .
عاوني
يارب على أن اتخطى نفسي إلى نفسي .. أتخطى نفسي الأمارة الطامعة في حيازة
الدنيا إلى نفسي الطامعة فيك في جوارك و رحمتك و نورك و وجهك .
لقد جربت حيازة كل شيء فما ازددت إلا فقراً و كلما طاوعت رغائبي ازدادت جوعاً و إلحاحاً و تنوعاً .
حينما
طاوعت شهوتي إلى المال ازددت بالغنى طمعاً و حرصاً و حينما طاوعت شهوتي
إلى النساء ازددت بالإشباع عطشاً و تطلعاً إلى التلوين و التغيير .. و
كأنما أشرب من ماء مالح فأزداد على الشرب ظمأً على ظمأ .
و
ما حسبته حرية كان عبودية و خضوعاً للحيوان المختفي تحت جلدي ثم هبوطاً
إلى درك الآلية المادية و إلى سجن الضرورات و ظلمة الحشوة الطينية و
غلظتها .
كنت أسقط و أنا أحسب أني أحلق و أرفرف .
و
خدعني شيطاني حينما غلف هذه الرغبات بالشعر و زوقها بالخيال الكاذب و
زينها بالعطور و زفها في أبهة الكلمات و بخور العواطف ، و لكن صحوة الندم
كانت توقظني المرة بعد المرة على اللاشيء و الخواء .
إلهي
.. لم تعد الدنيا و لا نفسي الطامعة في الدنيا و لا العلوم التي تسخر لي
هذه الدنيا و لا الكلمات التي احتال بها على هذه الدنيا .. مرادي و لا
بضاعتي .
و إنما أنت وحدك مرادي و مقصودي و مطلوبي فعاوني بك عليك و خلصني بك من سواك و أخرجني بنورك من عبوديتي لغيرك فكل طلب لغيرك خسار .
أنت
أنت وحدك .. و ما أرتضي مشوار هذه الدنيا إلا لدلالة هذا المشوار عليك و
ما يبهرني الجمال إلا لصدوره عنك و ما أقصد الخير و لا العدل و الحرية و
لا الحق إلا لأنها تجليات و أحكام أسمائك الحسنى يامن تسميت بأنك الحق .
و
لكن تلك هجرة لا أقدر عليها بدونك و نظرة لا أقوى عليها بغير معونتك ..
فعاوني و اشدد أزري .. فحسبي النية و المبادرة فذلك جهد الفقير .. فليس
أفقر مني .. و هل بعد العدم فقر .. و قد جئت إلى الدنيا معدماً و أخرج
منها معدماً و أجوزها معدماً .. زادي منك و قوتي منك و رؤيتي منك و نوري
منك .
و
اليوم جاءت الهجرة الكبرى التي أعبر فيها بحار الدنيا دون أن أبتل و أخوض
نارها دون أن أحترق .. فكيف السبيل إلى ذلك دون يدك مضمومة إلى يدي .
و هل يدي إلا من صنع يدك ؟ .. و هل يدي إلا من يدك ؟!
و هل هناك إلا يد واحدة ؟
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
سبحانك لا أرى لي يداً .
سبحانك لا أرى سواك .
لا إله إلا الله .
لا إله إلا الله حقاً و صدقاً .
و ذاتك هي واحدة الحسن .
الحسن كله منها .
و الحب كله لها .
و يدك هي واحدة المشيئة .
الفعل
كله منها و القوة كلها بها و إن تعددت الأيدي في الظاهر و ظن الظانون تعدد
المشيئات .. و إن تعدد المحبون و تعددت المحبوبات .. ما يركع الكل إلا على
بابك و ما يلثم الكل إلا أعتابك .. مؤمنون و كفرة .. و إن ظن الكافر أنه
يلثم ديناراً أو يقبل خداً فإنما هي أيادي رحمتك أو أيادي لعنتك هي ما
يلثم و يقبل دون أن يدري .
و إنما هي أسماء و أفعال و أوصاف .
و المسمى واحد .
و الفاعل واحد .
و الموصوف واحد .
لا إله إلا هو .
لا إله إلا الله .
الحمد له في الأول و الآخر .
رفعت الأقلام و طويت الصحف و انتهت الكلمات .
دكتور مصطفى محمود رحمه الله